عجيبٌ أمرنا مع برامج الولاء.
نصنعها لتُكافئ، فتتحوَّل إلى التزامٍ مالي لا يُسترَدّ.
نُغرِق المُستخدِم بالنقاط، فلا يستعملها، ونَحسبها في دفاترنا دَينًا مؤجَّلًا، فتتراكم.
هذه ليست ظاهرة عربية فحسب.
في أمريكا، تُظهر دراسات Antavo أنَّ أكثر من نصف النقاط التي تصدرها الشركات لا تُستخدَم قط.
وفي أوروبا، يشتكي خبراء السفر من “إرهاق الولاء” Loyalty Fatigue، إذ تراجع التفاعل مع البرامج على الرغم من توسِّعها وانتشارها. (Skift)
فإن كان هذا حال الأسواق المتقدِّمة، فكيف بمنظومات الولاء في منطقتنا، تلك التي ما زالت تُدَار بعقلية “اجمع واصرف”؟
السؤال الجوهري هنا ليس عن عدد النقاط، بل عن جدوى استمرار هذا الأنموذج.
في السطور التالية، نقف أمام هذا التحدِّي ونفكِّكه: لماذا لا تُستخدَم النقاط؟ مَن المُستفيد حقًّا؟ وما الذي يُمكن تغييره قبل أن يصبح الولاء عبئًا ماليًّا لا ميزة تسويقية؟
لماذا لا تُستخدَم النقاط؟
مَن يتأمَّل برامج الولاء اليوم، سيجد مشهدًا مألوفًا: ملايين العملاء يجمعون النقاط بحماس، ثمَّ يتركونها خاملة في حساباتهم. كأنَّهم يدَّخرون عملة لا تُنفَق، وكنزًا لا يُفتَح.
وَفقًا لتقرير Antavo، لا يُسترَدُّ سوى 48.6٪ من النقاط التي تمنحها الشركات سنويًّا. أي أنَّ أكثر من نصف القيمة تبقى مجمَّدة في مكانها. هذا الرقم لا يعبِّر عن سلوك المُستهلِك فحسب، بل يكشف عن خلل هيكلي في منظومة الولاء ذاتها.
فالنقاط غير المُستخدَمة ليست مجرَّد “مكافآت منسية”؛ إنَّها رأس مال مهمل. لا تتحرَّك، ولا تُنتِج، ولا تضيف دورة مالية جديدة إلى السوق. في الولايات المتحدة مثلًا، تُقدَّر قيمة النقاط غير المستعملة بأكثر من 140 مليار دولار، رقم يفوق الناتج المحلِّي لدول بأكملها، ومع ذلك يمرُّ بصمت داخل القوائم المحاسبية.
أمَّا في منطقتنا العربيَّة، فتتضاعف المشكلة بطابعها المحلِّي؛ تعدُّد البرامج، وغياب التشغيل البيني، وتقييد النقاط بمتاجر مغلقة، يجعل المُستخدِم يعيش داخل “اقتصاد الولاء المنعزل”. ولأنَّ القيمة لا تُقاس بما نملكه بل بما نستخدمه، فإنَّ كلَّ نقطة لا تُستبدَل هي فرصة اقتصادية ضائعة، لا على المُستهلِك فقط، بل على السوق بأسره.
في الفقرة التالية، سننتقل من السلوك الفردي إلى الحسابات الكبرى: كيف تتحوَّل هذه النقاط الصامتة إلى خسارة غير مرئيَّة في دفاتر الشركات؟
قد يهمُّك: نظرة شاملة على تاريخ برامج الولاء وتفضيلات العملاء في السعودية.
كيف تتحوَّل النقاط غير المُستخدَمة في برامج الولاء إلى خسارة غير مرئيَّة في قوائم الأرباح؟
حين ننظر إلى برامج النقاط بعين المحاسبة، قد تبدو كأنَّها حركة ذكية من قسم التسويق: تُكافئ العميل وتزرع فيه عادة العودة. لكن ما لا يُقال في بيانات الأرباح، أنَّ هذه النقاط تُسجَّل بصفتها التزام مالي مؤجَّل، لا يقلُّ خطورة عن قرض بنكي لا يُسدَّد.
خذ مثالًا من الغرب: شركة Delta Airlines، في عام واحد فقط، سجَّلت ما يقارب 3.9 مليار دولار التزامات مستحقَّة، بسبب نقاط لم تُستخدَم. Marriott كانت أقلَّ قليلًا: 2.6 مليار دولار. (المصدر) هذه ليست أرقامًا هامشية، بل تصل إلى 10٪ و25٪ من التزاماتهم الكاملة. أرقام كهذه لا تظهر على الرادار اليومي للمدير التنفيذي، لكنها تُرخي بظلِّها على كلِّ قرار توسُّع أو توزيع أرباح.
ومن زاوية أخرى، تأمَّل هذا المثال: في دراسة لـMIT، وُجِد أنَّ رفع قيمة النقطة بنسبة 10٪ فقط كان كافيًا لخفض إيرادات Delta بـ48 مليون دولار. (المصدر) أي أنَّ نقطة واحدة، غير مدفوعة الثمن بعد، قد تقلب معادلة الربح.
في السوق العربي، تتضاعف هذه الإشكالية. فغالبية برامج الولاء تُراكِم النقاط بنمط مؤجَّل؛ تُستخدَم بعد أشهر، وربَّما لا تُستخدَم أصلًا. لكنَّها على الرغم من ذلك، تُسجَّل بصفتها التزام على الشركة.
ولك أن تتخيَّل النتيجة!
بند ضخم في قائمة الميزانية، مقابل سلوك مُستهلِك لم يتحقَّق. لقد تحوَّل وعد المكافأة إلى عبء محاسبي، أشبه بمقعد فارغ في طائرة لا تعوِّضه تذكرة.
تظنُّ أنَّك منحت العميل “هدية”، فإذا بك تكتشف أنَّها كانت دَينًا على شركتك، لا يعود عليك بشيء.
حين تنقلب الهدية إلى خدعة.
عندما تمنح العلامة التِّجارية نقطةً أو ميزةً للمُستهلِك، فإنَّها ترسم صورة جميلة: “لقد جعلناك جزءاً من نادي النخبة”. لكن هذه الصورة سرعان ما تتبدَّل إلى خدعة، عندما يدرك المُستهلِك أنَّ الجائزة لا تأتي أو أن شروطها مُصمَّمة لتثني حتَّى الأكثر ولاءً.
وَفق تحليل نشره موقع CMSWire، فقد وجد أنَّ في صناعات مثل السفر والضيافة، نحو 70٪ من النقاط المُكتسَبة لا تُسترَدُّ أبداً. CMSWire.com أي أنَّ ما يُعدُّ هدية، يتحوَّل فعليَّاً إلى وعد لا يُنال، وإلى عبء نفسي أكثر من مكافأة فعلية.
هذا الواقع يولِّد شعوراً متراكماً:
- العميل يشعر بأنَّه «كان يحاول»، لكن النتيجة أنَّ لا شيء تغيَّر.
- العلامة التِّجارية تلفظه بصفته تاجر أعطى هدية لم تُفتَح.
- العَلاقات التي كان من المفترض أن تُبنَى على الثقة، تُبنَى على شروط مخفية وتراكمات غير مرئية.
في نفس الدراسة السابقة، وُجد أنَّ أكثر من 54٪ من عضويات برامج الولاء غير نشطة. إن كنت قد وقَّعت على برنامج ولاء، ولم تستخدمه في غضون عام، فأنت لست استثناء، أنت جزء من تلك “العضوية الميتة” التي تكمل الصفوف خلف “النقاط المتروكة”.
في المنطقة العربيَّة، حيث نظرة المُستهلِك إلى المكافأة أقلّ تفاعلاً بسبب شروط معقَّدة أو بُنية تِقنية غير متطوِّرة، يصبح الانقلاب من “هدية” إلى “خدعة” أسرع وأسهل. ولأنَّ الشعور بالخداع ليس مجرَّد تجرِبة فردية، بل يُخزَّن في ذاكرة المُستهلِك، فإنَّ كلفة هذا الأنموذج هي فقدان طويل الأمد قبل أن تكون خسارة مالية فورية.
هل يستفيد التاجر فعلاً من النقاط النائمة؟
في كلِّ برنامج ولاء، تتكوَّن معادلة لا يُفضِّل كثير من المديرين تسليط الضوء عليها: “نقاط مُصدرة – نقاط مُستعمَلة = التزام مستتر”. تلك النقاط التي لا تُستبدَل، تتحوَّل من وعد إلى رصيد مكتوم في قائمة الالتزامات، وهو ما كشفته دراسة عبر LoyaltyXpert بأنَّ برامج الولاء يمكن أن تشهد معدَّلات عدم استرداد تصل إلى 70‑85٪ في بعض الصناعات.
هذا الرقم لا يعني فقط أنَّ العميل لم يُنفِّذ الشروط، أو أنَّ العلامة التِّجارية لم تشجِّعه، بل يعني بوضوح أنَّ التاجر يحتفظ بنقطة مالية يحتسبها دَينًا لم يُسدَّد بعد. في دراسة أخرى من Yotpo و Voucherify أُكِّد أن “التزام النقاط” (Points Liability) يجب أن يُحسَب بنفس جدِّية رأس المال الثابت، نظراً لتأثيره المُحتمَل في السيولة والاحتياطات المالية.
الوجه الخطير: التركيز في “جمع النقاط” من دون تأكيد استخدامها يجعل الشركة تبني جسرًا نصف مكتمل. المُستخدِم يشعر أنَّ النقاط ليست “له” حتَّى تُرسَل أو تُبدَّل في وقت قريب، والتاجر يرى في دفتره تصاعدًا في الالتزامات، وتحقيقًا أقلّ للتفاعل من المطلوب. باختصار، الربح “الظاهر” من عدم استخدام النقاط، قد يبدو مغرياً اليوم، لكنَّه يحمل معه تكلِفة غداً؛ تكلِفة في الثقة، وفي التفاعل، وفي سوق كان بالإمكان أن يُفعَّل بدل أن يُجمَّد.
قد يهمُّك: الذكاء الاصطناعي: كيف يصنع قيمة حقيقية في برامج الولاء؟
الأسباب الجذرية للمشكلة: تعدُّد البرامج، غياب التكامل… لماذا تتراكم النقاط ولا تُستخدَم؟
حين يُصمَّم برنامج الولاء على مقاس المتجر فقط، من دون النظر إلى حياة العميل خارج المِنَصَّة، تبدأ النقاط بالتراكم، لا لأنَّها مجزية، بل لأنها مُقيَّدة.
أحد أبرز أسباب تراكم النقاط غير المُستخدَمة هو تعدُّد برامج الولاء واختلاف أنظمتها. فكلُّ متجر يُصدر نقاطه، بشروطه، وصلاحيته، وقنوات استرداده، وكأنَّ العميل يعيش في جزرٍ معزولة لا رابط بينها.
غياب ما يُعرَف بـ التشغيل البيني (Interoperability)، أي القدرة على استخدام النقاط في أكثر من نظام، أو لدى أكثر من جهة، يعني أنَّ القيمة تظلُّ حبيسة التطبيق أو المتجر الذي أصدرها.
وَفق تقرير The Wise Marketer، الشركات التي لا تعتمد بُنية مرنة لبرامجها تُعاني ارتفاع التزامات النقاط (Points Liability)، وضعف الاسترداد، وقلَّة التحفيز.
إضافة إلى ذلك، تواجه معظم البرامج صعوبة في واجهات الاستخدام:
- خطوات الاسترداد غالبًا معقَّدة.
- لا يُذَكَّر العميل بالنقاط المُتاحة.
- نوافذ الاستخدام قصيرة الأجل.
دراسة Leat تشير إلى أنَّ برامج الولاء التي لا تراعي وضوح آلية الاسترداد، وتنوُّع خِيارات المكافآت، تسجِّل معدَّلات عدم استرداد تتراوح بين 20–40٪ سنويًا.
السبب الأخير، وربَّما الأخطر، هو ضعف التحفيز السلوكي. حين يشعر العميل أنَّ النقاط لا تُستخدَم إلَّا إذا “تذكَّر” أو “سعى”، فإنَّ البرنامج لا يعمل لصالحه، بل ضده. الولاء، بطبيعته، ليس نشاطًا عقليًا مستمرًّا، بل سلوك متكرِّر يحدث من دون تفكير. وإن لم تَسْهُل الاستفادة من النقاط، فلن تُستخدَم مهما بلغت قيمتها.
قد يهمُّك: كيف تعيد رسال تنظيم المشهد داخل منظومة القيمة غير النقدية؟
من التجزئة إلى الشبكة: الحلُّ في الدمج الذكي، لا في الاستبدال.
لكي تخرج برامج الولاء من عزلتها، لا يكفي تحسين تصميمها داخل المتجر أو التطبيق، بل يجب ربطها بنظام بيئي أشمل، يُعيد تعريف معنى “القيمة”، ويُسهِّل تبادلها.
الحلُّ لا يبدأ بتغيير شكل النقاط، بل بتغيير وظيفتها. ما تحتاج إليه السوق ليس برنامجًا جديدًا لكلِّ متجر، بل شبكة مرنة تُوحِّد الاستخدام، وتمنح العميل حرية الحركة من دون التضحية بالخصوصية، أو الهُويَّة البصرية للعلامة التِّجارية.
وهنا، تبرز أهمية أدوات مثل حلول رسال للأعمال، التي لا تُقدِّم برنامج ولاء جديدًا بقدر ما تُعيد توجيه برامج الولاء القائمة نحو أنموذج القيمة متعدِّدة الاستخدام (multi-purpose value).
من خلال ربط المتجر بشبكة هدايا وعروض تمتدُّ عبر قطاعات متنوِّعة (مطاعم، مقاهٍ، صيدليات، مَتاجر إلكترونية…) يمكن تحويل النقاط أو الأرصدة غير المُستخدَمة إلى هدايا رقمية أو أرصدة قابلة للإنفاق بسهولة، وفي نفس اللحظة. وهذا لا يخلق فقط حافزًا للاستخدام، بل يُفعِّل ما يُعرَف بالتحفيز الذكي المستند إلى السياق؛ أي تقديم قيمة يشعر بها العميل في لحظته الحياتية، لا في سياق المتجر فقط.
وللشركات، يعني هذا التحوُّل تقليل الالتزامات المحاسبية المرتبطة بالنقاط غير المُستردَّة، وزيادة معدَّل الاستخدام الفعلي، من دون المساس بالهُويَّة التسويقية. فالمتجر لا يتخلَّى عن اسمه، بل يتوسَّع في دائرته.
قد يهمُّك: لماذا تحتاج الشركات إلى برنامج مكافآت؟
خُلاصة القول: النقاط التي لا تُستخدَم ليست مجرَّد إخفاق في التسويق، بل فرصة لم تُفعَّل.
حين نراجع الواقع بالأرقام، يتَّضح أنَّ السوق لا يخسر فقط تفاعلًا أو ولاءً، بل يخسر مليارات من القيمة غير المُستخدَمة سنويًّا. هذه الخسارة ليست وهمية، بل مدوَّنة في دفاتر المحاسبة بصفتها التزامات نقاط، وفي ذاكرة المستخدم وعد لم يُوفَ به.
لكن مثل كلِّ نقطة راكدة، يوجد احتمال لحركة. والسوق الذكي لا يقلِّل إصدار النقاط، بل يُسرِّع استخدامها، ويُعيد تعريف ولائها؛ من كونها وعدًا مؤجَّلًا، إلى كونها قيمة حيَّة قابلة للصرف والتحويل والتقدير.
وهنا تظهر أهمية التحوُّل نحو البُنية المالية الموحّدة للقيمة غير النقدية، حيث لا تبقى النقاط حبيسة النظام الذي وُلِدَت فيه، بل تُستثمَر عبر شبكة من الاستخدامات الفعلية.
شركة رسال تُمثِّل اليوم أحد أبرز الأمثلة على هذا التوجُّه في السوق السعودي، من خلال محفظة رقمية متكاملة، وشبكة تضمُّ أكثر من 800 علامة تِجارية، وحلول مُخصَّصة للتجار والمؤسَّسات، تقدِّم رسال بُنية تشغيلية حقيقية، تُحرِّر النقاط من قيودها، وتُحوِّلها إلى قيمة قابلة للاستخدام في الوقت والمكان المناسبين، عبر منتجاتها الجديدة، رسال كونكت، أو رسال باي، أو ربط برامج الولاء بالتطبيق مباشرة.
ولاء حقيقي، لا يُقاس بعدد النقاط، بل بعدد من استخدمها.
